فصل: تفسير الآية رقم (128)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ‏:‏

فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏(‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏)‏ بِكَسْرِ الخَاءِ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ بِاتِّخَاذِهِ مُصَلًّى‏.‏ وَهِيَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ الْمِصْرَيْنِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَقِرَاءَةُ عَامَّةِ قَرَأَةِ أَهْلِ مَكَّةَ وَبَعْضِ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ‏.‏ وَذَهَبَ إِلَيْهِ الَّذِينَ قَرَأُوهُ كَذَلِكَ، مِنَ الْخَبَرِ الَّذِي‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَا حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ اتَّخَذْتَ الْمَقَامَ مُصَلًّى‏!‏ فَأَنـْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏(‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُدَيٍّ- وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ- جَمِيعًا، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ عُمْرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ‏:‏ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ‏.‏

قَالُوا‏:‏ فَإِنَّمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ هَذِهِ الْآيَةَ أَمْرًا مِنْهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّخَاذِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏.‏ فَغَيْرُ جَائِزٍ قِرَاءَتُهَا- وَهِيَ أَمْرٌ- عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي‏)‏ و ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏‏.‏ فَكَانَ الْأَمْرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِاتِّخَاذِ الْمُصَلَّى مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ- لِلْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،‏.‏‏.‏‏.‏ كَمَا حُدِّثْنَا ‏[‏عَنْ‏]‏ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ‏.‏ بِمَا‏:‏ حَدَّثْتُ ‏[‏بِهِ‏]‏ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ‏:‏ مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَهُمْ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْمَقَامِ‏.‏

فَتَأْوِيلُ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ‏:‏ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ، إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا، وَقَالَ‏:‏ اتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلُ، يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَجَمِيعَ الْخَلْقِ الْمُكَلَّفِينَ‏.‏

وَقَرَأَهُ بَعْضُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذُوا‏}‏ بِفَتْحِ ‏"‏ الخَاءِ ‏"‏ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ فِي الَّذِي عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَاتَّخَذُوا‏)‏ إِذْ قُرِئَ كَذَلِكَ، عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ،

فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ‏:‏ تَأْوِيلُهُ، إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ‏:‏ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا، ‏[‏وَإِذِ‏]‏ اتَّخَذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ‏:‏ بَلْ ذَلِكَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏جَعَلْنَا‏)‏، فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ، وَاتَّخَذُوهُ مُصَلًّى‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا‏:‏ ‏(‏وَاتَّخِذُوا‏)‏ بِكَسْرِ الخَاءِ، عَلَى تَأْوِيلِ الْأَمْرِ بِاتِّخَاذِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، لِلْخَبَرِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَأَنَّ‏:‏ عَمْرَو بْنَ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَابِرِ بْنِ عبدِ اللهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏)‏، وَفِي ‏"‏ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ ‏"‏‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏(‏مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ‏)‏، هُوَ الْحَجُّ كُلُّهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ‏)‏، قَالَ الْحَجُّ كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏(‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏)‏ قَالَ، الْحَجُّ كُلُّهُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ‏:‏ الْحَجُّ كُلُّهُ ‏"‏ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ ‏(‏مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ‏)‏ عَرَفَةُ وَالْمُزْدَلِفَةُ وَالْجِمَارُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ‏:‏ ‏(‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏)‏ قَالَ‏:‏ لِأَنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ إِمَامًا، فَمَقَامُهُ عَرَفَةُ وَالْمُزْدَلِفَةُ وَالْجِمَارُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏)‏ قَالَ، مَقَامُهُ‏:‏ جَمْعٌ وَعَرَفَةُ وَمِنًى- لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا وَقَدْ ذَكَرَ مَكَّةَ‏.‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏ قَالَ، مَقَامُهُ، عَرَفَةُ‏.‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ‏:‏ نـَزَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 3‏]‏، الْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ مِثْلَهُ

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ ‏(‏مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ‏)‏، الْحَرَمُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حُدِّثْتُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏ قَالَ، الْحَرَمُ كُلُّهُ ‏"‏ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ ‏(‏مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ‏)‏ الْحَجْرُ الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ حِينَ ارْتَفَعَ بِنَاؤُهُ، وَضَعُفَ عَنْ رَفْعِ الْحِجَارَةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا سِنَانُ الْقَزَّازُ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الْحَنَفِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ، سَمِعْتُ كَثِيرَ بْنَ كَثِيرٍ يُحَدِّثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِيهِ، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَيَقُولَانِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏‏.‏ فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْبُنْيَانُ، وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ رَفْعِ الْحِجَارَةِ، قَامَ عَلَى حَجَرٍ، فَهُوَ ‏"‏ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ ‏"‏ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ‏)‏، هُوَ مَقَامُهُ الَّذِي هُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏، إِنَّمَا أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا عِنْدَهُ، وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِمَسْحِهِ‏.‏ وَلَقَدْ تَكَلَّفَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ شَيْئًا مَا تَكَلَّفَتْهُ الْأُمَمُ قَبْلَهَا‏.‏ وَلَقَدْ ذَكَرَ لَنَا بَعْضُ مَنْ رَأَى أَثَرَ عَقِبِهِ وَأَصَابِعِهِ، فَمَا زَالَتْ هَذِهِ الْأُمَمُ يَمْسَحُونَهُ حَتَّى اخْلَوْلَقَ وَانْمَحَى‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏، فَهُمْ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْمَقَامِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏، وَهُوَ الصَّلَاةُ عِنْدَ مَقَامِهِ فِي الْحَجِّ‏.‏

و ‏"‏ الْمَقَامُ ‏"‏ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي كَانَتْ زَوْجَةُ إِسْمَاعِيلَ وَضَعَتْهُ تَحْتَ قَدَمِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ غَسَلَتْ رَأْسَهُ، فَوَضْعَ إِبْرَاهِيمُ رِجْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَغَسَلَتْ شِقَّهُ، ثُمَّ رَفَعَتْهُ مِنْ تَحْتِهِ وَقَدْ غَابَتْ رِجْلُهُ فِي الْحَجَرِ، فَوَضَعَتْهُ تَحْتَ الشِّقِّ الْآخَرِ، فَغَسَلَتْهُ، فَغَابَتْ رِجْلُهُ أَيْضًا فِيهِ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ مِنْ شَعَائِرِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ عِنْدَنَا، مَا قَالَهُ الْقَائِلُونَ‏:‏ إِنَّ ‏"‏ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ‏)‏، هُوَ الْمَقَامُ الْمَعْرُوفُ بِهَذَا الِاسْمِ، الَّذِي هُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِمَا رَوَيْنَا آنِفًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَلِمَا‏:‏ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ سَلْمَانَ قَالَ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ‏:‏ اسْتَلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ‏:‏ ‏(‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏)‏‏.‏ فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْن‏.‏

فَهَذَانِ الْخَبِرَانِ يُنْبِئَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا عَنَى بِـ ‏"‏ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ ‏"‏ الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِاتِّخَاذِهِ مُصَلًّى- هُوَ الَّذِي وَصَفْنَا‏.‏

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى صِحَّةِ مَا اخْتَرْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ مَا قُلْنَا‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ مَحْمُولٌ مَعْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ الْمَعْرُوفِ، دُونَ بَاطِنِهِ الْمَجْهُولِ، حَتَّى يَأْتِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، مِمَّا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ‏.‏ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي النَّاسِ بِـ ‏"‏ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ ‏"‏ هُوَ الْمُصَلَّى الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏(‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏)‏‏.‏

‏[‏قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏مُصَلًّى‏)‏‏]‏، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ مُخْتَلِفُونَ فِي مَعْنَاهُ‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُوَ الْمُدَّعَى‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏ قَالَ، مُصَلَّى إِبْرَاهِيمَ مُدَّعًى‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ اتَّخَذُوا مُصَلًّى تُصَلُّونَ

عِنْدَهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ، أَمَرُوا أَنْ يُصَلُّوا عِنْدَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ قَالَ‏:‏ هُوَ الصَّلَاةُ عِنْدَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَكَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ تَأْوِيلُ‏:‏ ‏"‏ المُصَلَّى ‏"‏ هَهُنَا، الْمُدَّعَى، وَجَّهُوا ‏"‏ الْمُصَلَّى ‏"‏ إِلَى أَنَّهُ ‏"‏ مُفَعَّلٌ‏)‏، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏صَلَّيْتُ‏)‏ بِمَعْنَى دَعَوْتُ‏.‏

وَقَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ، هُمُ الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ إِنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْحَجُّ كُلُّهُ‏.‏

فَكَانَ مَعْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ وَاتَّخِذُوا عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةَ وَالْمَشْعَرَ وَالْجِمَارَ، وَسَائِرَ أَمَاكِنِ الْحَجِّ الَّتِي كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُومُ بِهَا مَدَاعِيَ تَدْعُونِي عِنْدَهَا، وَتَاتَمُّونَ بِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِي عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا، فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ لِمَنْ بَعْدَهُ- مِنْ أَوْلِيَائِي وَأَهِلَ طَاعَتِي- إِمَامًا يَقْتَدُونَ بِهِ وَبِآثَارِهِ، فَاقْتَدَوْا بِهِ‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْقَائِلِينَ الْقَوْلَ الْآخَرَ، فَإِنَّهُ‏:‏ اتَّخِذُوا أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى تُصَلُّونَ عِنْدَهُ، عِبَادَةً مِنْكُمْ، وَتَكْرِمَةً مِنِّي لِإِبْرَاهِيمَ‏.‏

وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخَبَرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَجَابِرِ بْنِ عبدِ اللهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَعَهِدْنَا‏)‏؛ وَأَمَرْنَا، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ قُلْتُ لِعَطَاءٍ‏:‏ مَا عَهْدُهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَمْرُهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ‏)‏ قَالَ، أَمَرْنَاهُ‏.‏

فَمَعْنَى الْآيَةِ‏:‏ وَأَمَرْنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِتَطْهِيرِ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ‏.‏ ‏"‏ وَالتَّطْهِيرُ ‏"‏ الَّذِي أَمَرَهُمَا اللَّهُ بِهِ فِي الْبَيْتِ، هُوَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فِيهِ، وَمِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَمَامَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ‏)‏‏؟‏وَهَلْ كَانَ أَيَّامَ إِبْرَاهِيمَ- قَبْلَ بِنَائِهِ الْبَيْتَ- بَيْتٌ يُطَهَّرُ مِنَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فِي الْحَرَمِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا أُمِرا بِتَطْهِيرِهِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ لِذَلِكَ وَجْهَانِ مِنَ التَّأْوِيلِ، قَدْ قَالَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ‏:‏ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنِبْنِيَا بَيْتِيَ مُطَهَّرًا مِنَ الشِّرْكِ وَالرَّيْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ التَّوْبَةِ‏:‏ 109‏]‏، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلََ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ‏}‏، أَيْ ابْنِيَا بَيْتِيَ عَلَى طُهْرٍ مِنَ الشِّرْكِ بِي وَالرَّيْبِ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلََ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ ابْنِيَا بَيْتِيَ ‏[‏لِلطَّائِفِينَ‏]‏‏.‏ فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْهِ‏.‏

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَا أُمِرَا بِأَنْ يُطَهِّرَا مَكَانَ الْبَيْتِ قَبْلَ بُنْيَانِهِ، وَالْبَيْتَ بَعْدَ بُنْيَانِهِ، مِمَّا كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ يَجْعَلُونَهُ فِيهِ- عَلَى عَهْدِ نُوحٍ وَمَنْ قَبْلَهُ- مِنَ الْأَوْثَانِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ سُنَّةً لِمَنْ بَعْدَهُمَا، إِذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ جَعَلَ إِبْرَاهِيمَ إِمَامًا يَقْتَدِي بِهِ مَنْ بَعْدَهُ، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنْ طَهِّرَا ‏"‏ قَالَ، مِنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي يَعْبُدُونَ، الَّتِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُعَظِّمُونَهَا‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ‏:‏ ‏{‏أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ‏}‏ قَالَ، مِنَ الْأَوْثَانِ وَالرَّيْبِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ مِنَ الشِّرْكِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏(‏طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ‏)‏ قَالَ، مِنَ الْأَوْثَانِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ‏)‏ قَالَ‏:‏ مِنَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، بِمِثْلِهِ- وَزَادَ فِيهِ‏:‏ وَقَوْلُ الزُّورِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِلطَّائِفِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ‏"‏ الطَّائِفِينَ ‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هُمُ الْغُرَبَاءُ الَّذِينَ يَأْتُونَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ مِنْ غُرْبَةٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُصَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لِلطَّائِفِينَ‏)‏ قَالَ، مَنْ أَتَاهُ مِنْ غُرْبَةٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ ‏"‏ الطَّائِفُونَ ‏"‏ هُمُ الَّذِينَ يَطُوفُونَ بِهِ، غُرَبَاءَ كَانُوا أَوْ مِنْ أَهْلِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ‏:‏ ‏(‏لِلطَّائِفِينَ‏)‏ قَالَ، إِذَا كَانَ طَائِفًا بِالْبَيْتِ فَهُوَ مِنَ ‏"‏ الطَّائِفِينَ ‏"‏‏.‏

وَأَوْلَى التَّأْوِِيلَيْنِ بِالْآيَةِ مَا قَالَهُ عَطَاءٌ‏.‏ لِأَنَّ ‏"‏ الطَّائِف ‏"‏ هُوَ الَّذِي يَطُوفُ بِالشَّيْءِ دُونَ غَيْرِهِ‏.‏ وَالطَّارِئُ مِنْ غُرْبَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ ‏"‏ طَائِفٍ بِالْبَيْتِ‏)‏، إِنْ لَمْ يَطُفْ بِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالْعَاكِفِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَالْعَاكِفِينَ‏)‏، وَالْمُقِيمِينَ بِهِ‏.‏ ‏(‏وَالْعَاكِفُ عَلَى الشَّيْءِ‏)‏، هُوَ الْمُقِيمُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ‏:‏

عُكُوفـا لـدَى أَبْيـَاتِهِمْ يَثْمـِدُونَهُمْ *** رَمـَى اللَّـهُ فـِي تِلـْكَ الْأَكُفِّ الْكَوَانِعِ

وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمُعْتَكِفِ ‏(‏مُعْتَكِفٌ‏)‏، مِنْ أَجْلِ مَقَامِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَبَسَ فِيهِ نَفْسَهُ لِلَّهِ تَعَالَى‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَالْعَاكِفِينَ‏)‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عَنَى بِهِ الْجَالِسَ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ طَوَافٍ وَلَا صَلَاةٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ‏:‏ إِذَا كَانَ طَائِفًا بِالْبَيْتِ فَهُوَ مِنَ الطَّائِفِينَ، وَإِذَا كَانَ جَالِسًا فَهُوَ مِنَ الْعَاكِفِينَ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏"‏ العَاكِفُونَ‏)‏، هُمُ الْمُعْتَكِفُونَ الْمُجَاوِرُونَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ‏:‏ ‏(‏طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ‏)‏ قَالَ، الْمُجَاوِرُونَ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏(‏العَاكِفُونَ‏)‏، هُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ الْحَرَامِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُصَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَالْعَاكِفِينَ‏)‏ قَالَ‏:‏ أَهْلُ الْبَلَدِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏(‏وَالْعَاكِفِينَ‏)‏ قَالَ‏:‏ الْعَاكِفُونَ‏:‏ أَهْلُهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ ‏"‏ العَاكِفُونَ‏)‏، هُمُ الْمُصَلُّونَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ‏)‏ قَالَ، الْعَاكِفُونَ، الْمُصَلُّونَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ التَّأْوِِيلَاتِ بِالصَّوَابِ مَا قَالَهُ عَطَاءٌ، وَهُوَ أَنَّ ‏"‏ العَاكِفَ ‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الْمُقِيمُ فِي الْبَيْتِ مُجَاوِرًا فِيهِ بِغَيْرِ طَوَّافٍ وَلَا صَلَاةٍ‏.‏ لِأَنَّ صِفَةَ ‏"‏ العُكُوفِ ‏"‏ مَا وَصَفْنَا‏:‏ مِنَ الْإِقَامَةِ بِالْمَكَانِ‏.‏ وَالْمُقِيمُ بِالْمَكَانِ قَدْ يَكُونُ مُقِيمًا بِهِ وَهُوَ جَالِسٌ وَمُصَلٍّ وَطَائِفٌ وَقَائِمٌ، وَعَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ‏.‏ فَلَمَّا كَانَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ ذَكَرَ- فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ‏}‏- الْمُصَلِّينَ وَالطَّائِفِينَ، عَلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَالَ الَّتِي عَنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنْ ‏"‏ العَاكِفِ‏)‏، غَيْرُ حَالِ الْمُصَلِّي وَالطَّائِفِ، وَأَنَّ الَّتِي عَنَى مِنْ أَحْوَالِهِ، هُوَ الْعُكُوفُ بِالْبَيْتِ، عَلَى سَبِيلِ الْجِوَارِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا فِيهِ وَلَا رَاكِعًا وَلَا سَاجِدًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَالرُّكَّعِ‏)‏، جَمَاعَةَ الْقَوْمِ الرَّاكِعِينَ فِيهِ لَهُ، وَاحِدُهُمْ ‏"‏ رَاكِعٌ ‏"‏‏.‏ وَكَذَلِكَ ‏"‏ السُّجُودِ ‏"‏ هُمْ جَمَاعَةُ الْقَوْمِ السَّاجِدِينَ فِيهِ لَهُ، وَاحِدُهُمْ ‏"‏ سَاجِدٌ ‏"‏- كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏(‏رَجُلٌ قَاعِدٌ وَرِجَالٌ قُعُودٌ‏)‏ و‏(‏رَجُلٌ جَالِسٌ وَرِجَالٌ جُلُوسٌ‏)‏، فَكَذَلِكَ ‏"‏ رَجُلٌ سَاجِدٌ وَرِجَالٌ سُجُودٌ‏"‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ بَلْ عَنَى ‏(‏بِالرُّكَّعِ السُّجُودِ‏)‏، الْمُصَلِّينَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ‏:‏ ‏(‏وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ‏)‏ قَالَ، إِذَا كَانَ يُصَلِّي فَهُوَ مِنْ ‏"‏ الرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏(‏وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ‏)‏، أَهْلُ الصَّلَاةِ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى بَيَانَ مَعْنَى ‏"‏ الرُّكُوعِ ‏"‏ و ‏"‏ السُّجُودِ‏)‏، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا‏)‏، وَاذْكُرُوا إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ بَلَدًا آمِنًا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏آمِنًا‏)‏‏:‏ آمِنًا مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَغَيْرِهِمْ، أَنْ يُسَلَّطُوا عَلَيْهِ، وَمِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ أَنْ تَنَالَهُ، كَمَا تَنَالُ سَائِرَ الْبُلْدَانِ، مَنْ خَسْفٍ، وَائْتِفَاكٍ، وَغَرَقٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَمَثُلَاتِهِ الَّتِي تُصِيبُ سَائِرَ الْبِلَادِ غَيْرَهُ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ ذَكَرَ لَنَا أَنَّ الْحَرَمَ حُرِّمَ بِحِيَالِهِ إِلَى الْعَرْشِ‏.‏ وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ الْبَيْتَ هَبَطَ مَعَ آدَمَ حِينَ هَبَطَ‏.‏ قَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ أَهْبِطُ مَعَكَ بَيْتِي يُطَافُ حَوْلَهُ كَمَا يُطَافُ حَوْلَ عَرْشِي‏.‏ فَطَافَ حَوْلَهُ آدَمُ وَمَنْ كَانَ بَعْدَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى إِذَا كَانَ زَمَانُ الطُّوفَانِ- حِينَ أَغْرَقَ اللَّهُ قَوْمَ نُوحٍ- رَفَعَهُ وَطَهَّرَهُ، وَلَمْ تُصِبْهُ عُقُوبَةُ أَهْلِ الْأَرْضِ‏.‏ فَتَتَبَّعُ مِنْهُ إِبْرَاهِيمُ أَثَرًا، فَبَنَاهُ عَلَى أَسَاسٍ قَدِيمٍ كَانَ قَبْلَهُ‏.‏

فَإِنْقَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ أَوَمَا كَانَ الْحَرَمُ آمِنًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ لَهُ الْأَمَانَ‏؟‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ لَقَدْ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لَمْ يَزَلْ الْحَرَمُ آمِنًا مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ وَعُقُوبَةِ جَبَابِرَةِ خَلْقِهِ، مُنْذُ خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ‏.‏ وَاعْتَلُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا‏:‏-

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيَّ يَقُولُ‏:‏ لَمَّا افْتُتِحَتْ مَكَّةُ قَتَلَتْ خُزَاعَةُ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَقَالَ‏:‏ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، أَوْ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرًا‏.‏ أَلَا وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تُحَلَّ لِي إِلَّا هَذِهِ السَّاعَةَ، غَضَبًا عَلَى أَهْلِهَا‏.‏ أَلَا فَهِيَ قَدْ رَجَعَتْ عَلَى حَالِهَا بِالْأَمْسِ‏.‏ أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَمَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَتَلَ بِهَا‏!‏ فَقُولُوا‏:‏ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحِلَّهَا لَكَ»‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ- وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ- جَمِيعًا، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَكَّةَ حِينَ افْتَتَحَهَا‏:‏ «هَذِهِ حُرُمٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَخَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَوَضَعَ هَذَيْنِ الْأَخْشَبَيْنِ، لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، أُحِلَتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَار»‏.‏

قَالُوا‏:‏ فَمَكَّةُ مُنْذُ خُلِقَتْ حَرَمٌ آمِنٌ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ وَعُقُوبَةِ الْجَبَابِرَةِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَقَدْ أَخْبَرَتْ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَلَمْ يَسْأَلْ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ أَنْ يُؤَمِّنَهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَعُقُوبَةِ الْجَبَابِرَةِ، وَلَكِنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يُؤْمِّنَ أَهْلَهُ مِنَ الْجَدُوبِ والقُحُوطِ، وَأَنْ يَرْزُقَ سَاكِنَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ، كَمَا أَخْبَرَ رَبُّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏ قَالُوا‏:‏ وَإِنَّمَا سَأَلَ رَبَّهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَسْكَنَ فِيهِ ذُرِّيَّتَهُ، وَهُوَ غَيْرُ ذِي زَرْعٍ وَلَا ضَرْعٍ، فَاسْتَعَاذَ رَبَّهُ مِنْ أَنْ يُهْلِكَهُمْ بِهَا جُوعًا وَعَطَشًا، فَسَأَلَهُ أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ مِمَّا حَذِرَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ سَأَلَ رَبَّهُ تَحْرِيمَ الْحَرَمِ، وَأَنْ يُؤَمِّنَهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَعُقُوبَةِ جَبَابِرَةِ خَلْقِهِ، وَهُوَ الْقَائِلُ- حِينَ حَلَّهُ، وَنـَزَلَهُ بِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 37‏]‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ فَلَوْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ هُوَ الَّذِي حَرَّمَ الْحَرَمَ أَوْ سَأَلَ رَبَّهُ تَحْرِيمَهُ لَمَا قَالَ‏:‏ ‏(‏عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ‏)‏ عِنْدَ نـُزُولِهِ بِهِ، وَلَكِنَّهُ حُرِّمَ قَبْلَهُ، وَحُرِّمَ بَعْدَهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ كَانَ الْحَرَمُ حَلَالًا قَبْلَ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ كَسَائِرِ الْبِلَادِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا صَارَ حَرَامًا بِتَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهُ، كَمَا كَانَتْ مَدِينَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَالًا قَبْلَ تَحْرِيمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ، مَا‏:‏-

حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عبدِ اللهِ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ بَيْتَ اللَّهِ وَأَمَّنَهُ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَّتَيْهَا، لَا يُصَادُ صَيْدُهَا، وَلَا تُقْطَعُ عِضَاهُهَا»‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو السَّائِبِ قَالَا ‏[‏حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ- وَأَخْبَرَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏]‏، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ الرَّازِي، ‏[‏قَالَا جَمِيعًا‏]‏‏:‏ سَمِعْنَا أَشْعَثَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عبدَ اللهِ وَخَلِيلَهُ، وَإِنِّي عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَّتَيْهَا، عِضَاهَهَا وَصَيْدَهَا، وَلَا يُحْمَلُ فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ، وَلَا يُقْطَعُ مِنْهَا شَجَرٌ إِلَّا لِعَلَفِ بَعِير»‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا»‏.‏

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَطُولُ بِاسْتِيعَابِهَا الْكِتَابُ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ ‏(‏رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا‏)‏، وَلَمْ يُخْبِرْ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ أَنْ يَجْعَلَهُ آمِنًا مِنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الَّذِي سَأَلَهُ مِنْ ذَلِكَ، الْأَمَانُ لَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ، إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي شُرَيْحٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَخَبَرَانِ لَا تَثْبُتُ بِهِمَا حُجَّةٌ، لِمَا فِي أَسَانِيدِهِمَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ فِيهَا مِنْ أَجْلِهَا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا‏:‏ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ جَعَلَ مَكَّةَ حَرَمًا حِينَ خَلَقَهَا وَأَنْشَأَهَا، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ‏"‏ أَنَّهُ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ‏)‏، بِغَيْرِ تَحْرِيمٍ مِنْهُ لَهَا عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَلَكِنْ بِمَنْعِهِ مَنْ أَرَادَهَا بِسُوءٍ، وَبِدَفْعِهِ عَنْهَا مِنَ الْآفَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ، وَعَنْ سَاكِنِيهَا، مَا أَحَلَّ بِغَيْرِهَا وَغَيْرِ سَاكِنِيهَا مِنَ النَّقَمَاتِ‏.‏ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ أَمْرُهَا حَتَّى بَوَّأَهَا اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ، وَأَسْكَنَ بِهَا أَهْلَهُ هَاجَرَ وَوَلَدَهُ إِسْمَاعِيلَ‏.‏ فَسَأَلَ حِينَئِذٍ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ إِيجَابَ فَرْضِ تَحْرِيمِهَا عَلَى عِبَادِهِ عَلَى لِسَانِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ سُنَّةً لِمَنْ بَعْدِهِ مِنْ خَلْقِهُ، يَسْتَنُّونَ بِهِ فِيهَا، إِذْ كَانَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ جَاعِلُهُ، لِلنَّاسِ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ، فَأَجَابَهُ رَبُّهُ إِلَى مَا سَأَلَهُ، وَأَلْزَمَ عِبَادَهُ حِينَئِذٍ فَرْضَ تَحْرِيمِهُ عَلَى لِسَانِهِ،

فَصَارَتْ مَكَّةُ- بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً بِمَنْعِ اللَّهِ إِيَّاهَا، بِغَيْرِ إِيجَابِ اللَّهِ فَرْضَ الِامْتِنَاعِ مِنْهَا عَلَى عِبَادِهِ، وَمُحَرَّمَةً بِدَفْعِ اللَّهِ عَنْهَا، بِغَيْرِ تَحْرِيمِهِ إِيَّاهَا عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ- فَرْضٌ تَحْرِيمُهَا عَلَى خَلْقِهِ عَلَى لِسَانِ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَوَاجِبٌ عَلَى عِبَادِهِ الِامْتِنَاعُ مِنَ اسْتِحْلَالِهَا، وَاسْتِحْلَالِ صَيْدِهَا وَعِضَاهِهَا لَهَا بِإِيجَابِهِ الِامْتِنَاعَ مِنْ ذَلِكَ بِبَلَاغِ إِبْرَاهِيمَ رِسَالَةَ اللَّهِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ إِلَيْهِمْ‏.‏

فَلِذَلِكَ أُضِيفَ تَحْرِيمُهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ»؛ لِأَنَّ فَرْضَ تَحْرِيمِهَا الَّذِي أَلْزَمَ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَهُ بِهِ- دُونَ التَّحْرِيمِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ مُتَعَبِّدًا لَهَا بِهِ عَلَى وَجْهِ الْكِلَاءَةِ وَالْحِفْظِ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ- كَانَ عَنْ مَسْأَلَةِ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ إِيجَابَ فَرْضِ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ، ‏[‏وَهُوَ الَّذِي‏]‏ لَزِمَ الْعِبَادَ فَرْضُهُ دُونَ غَيْرِهِ‏.‏

فَقَدْ تَبَيَّنَ إِذًا بِمَا قُلْنَا صِحَّةُ مَعْنَى الْخَبَرَيْنِ- أَعْنِي خَبَرَ أَبِي شُرَيْحٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ «وَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ»- وَخَبَرَ جَابِرٍ وَأَبَى هُرَيْرَةَ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَغَيْرِهِمْ‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ»؛ وَأَنْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا دَافِعًا صِحَّةَ مَعْنَى الْآخَرِ، كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْجُهَّالِِ‏.‏

وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا دَافِعًا بَعْضًا، إِذَا ثَبَتَ صِحَّتُهَا‏.‏ وَقَدْ جَاءَ الْخَبَرَانِ اللَّذَانِ رُوِيَا فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَجِيئًا ظَاهِرًا مُسْتَفِيضًا يَقْطَعُ عُذْرَ مَنْ بَلَغَهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ‏{‏رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 37‏]‏ فَإِنَّهُ، إِنْ يَكُنْ قَالَهُ قَبْلَ إِيجَابِ اللَّهِ فَرْضَ تَحْرِيمِهِ عَلَى لِسَانِهِ عَلَى خَلْقِهِ، فَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ تَحْرِيمَ اللَّهِ إِيَّاهُ الَّذِي حَرَّمَهُ بِحِيَاطَتِهِ إِيَّاهُ وَكِلَاءَتِهِ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمِهِ إِيَّاهُ عَلَى خَلْقِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ، لَهُمْ بِذَلِكَ- وَإِنْ يَكُنْ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ تَحْرِيمِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَى خَلْقِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ فَلَا مَسْأَلَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ‏:‏ أَنْ يَرْزُقَ مُؤْمِنِي أَهْلِ مَكَّةَ مِنَ الثَّمَرَاتِ، دُونَ كَافِرِيهِمْ‏.‏ وَخَصَّ بِمَسْأَلَةِ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ، لِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ- عِنْدَ مَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ- أَنَّ مِنْهُمُ الْكَافِرَ الَّذِي لَا يَنَالُ عَهْدَهُ، وَالظَّالِمَ الَّذِي لَا يُدْرِكُ وِلَايَتَهُ‏.‏ فَلَمَّا أَنْ عَلِمَ أَنَّ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الظَّالِمَ وَالْكَافِرَ، خَصَّ بِمَسْأَلَتِهِ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَ مِنَ الثَّمَرَاتِ مِنْ سُكَّانِ مَكَّةَ، الْمُؤْمِنَ مِنْهُمْ دُونَ الْكَافِرِ‏.‏ وَقَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ إِنِّي قَدْ أَجَبْتُ دُعَاءَكَ، وَسَأَرْزُقُ مَعَ مُؤْمِنِي أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ كَافِرَهُمْ، فَأُمَتِّعُهُ بِهِ قَلِيلًا‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏ مَنْ ‏"‏ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏)‏، فَإِنَّهُ نَصْبٌ عَلَى التَّرْجَمَةِ وَالْبَيَانِ عَنْ ‏"‏ الأَهْلِ‏)‏، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 217‏]‏، بِمَعْنَى‏:‏ يَسْأَلُونَكَ عَنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 97‏]‏‏:‏ بِمَعْنَى‏:‏ وَلِلَّهِ حَجُّ الْبَيْتِ عَلَى مَنِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا‏.‏

وَإِنَّمَا سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ مَا سَأَلَ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ حَلَّ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وَلَا مَاءٍ وَلَا أَهْلٍ، فَسَأَلَ أَنْ يَرْزُقَ أَهْلَهُ ثَمَرًا، وَأَنْ يَجْعَلَ أَفْئِدَةَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ‏.‏ فَذَكَرَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا سَأَلَ ذَلِكَ رَبَّهُ، نَقَلَ اللَّهُ الطَّائِفَ مِنْ فِلَسْطِينَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ قَالَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ قَالَ، قَرَاتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا دَعَا لِلْحَرَمِ‏:‏ ‏(‏وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ‏)‏، نَقْلَ اللَّهُ الطَّائِفَ مِنْ فِلَسْطِينَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ‏{‏قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَفِي وَجْهِ قِرَاءَتِهِ‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ رَبُّنَا تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى قَوْلِهِمْ‏:‏ قَالَ‏:‏ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا بِرِزْقِي مِنَ الثَّمَرَاتِ فِي الدُّنْيَا، إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ أَجْلُهُ‏.‏ وَقَرَأَ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا‏}‏، بِتَشْدِيد ‏"‏ التَّاءِ ‏"‏ وَرَفْعِ ‏"‏ العَيْنِ ‏"‏‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ‏}‏، قَالَ هُوَ قَوْلُ الرَّبِّ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ لَمَّا قَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ ‏{‏رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر‏}‏، وَعَدَلَ الدَّعْوَةَ عَمَّنْ أَبَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ الْوِلَايَةَ، انْقِطَاعًا إِلَى اللَّهِ، وَمَحَبَّةً وَفِرَاقًا لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، حِينَ عَرَفَ أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْهُمْ ظَالِمٌ لَا يَنَالُ عَهْدَهُ، بِخَبَرِهِ عَنْ ذَلِكَ حِينَ أَخْبَرَهُ فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ وَمَنْ كَفَرَ- فَإِنِّي أَرْزُقُ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ- فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ قَالَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، عَلَى وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهُ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَ الْكَافِرَ أَيْضًا مِنَ الثَّمَرَاتِ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ، مِثْلَ الَّذِي يَرْزُقُ بِهِ الْمُؤْمِنَ وَيُمَتِّعَهُ بِذَلِكَ قَلِيلًا ‏"‏ ثُمَّ اضْطَرَّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ‏"‏- بِتَخْفِيفِ ‏"‏ التَّاءِ ‏"‏ وَجَزْمِ ‏"‏ العَيْنِ ‏"‏، وَفَتْحِ ‏"‏ الرَّاءِ ‏"‏ مِنِضْطَرَّهُ، وَفَصْلِ ‏"‏ ثُمَّ اضْطَرَّهُ ‏"‏ بِغَيْرِ قَطْعِ أَلِفِهَا- عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ لَهُمْ وَالْمَسْأَلَةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ‏:‏ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ‏:‏ ذَلِكَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ، يَسْأَلُ رَبَّهُ أَنَّ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعْهُ قَلِيلًا‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَمَنْ كَفَرَ فَأَرْزُقُهُ أَيْضًا، ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا وَالتَّأْوِيلِ، مَا قَالَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَقِرَاءَتُهُ، لِقِيَامِ الْحُجَّةِ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ دِرَايَةً بِتَصْوِيبِ ذَلِكَ، وَشُذُوذِ مَا خَالَفَهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ‏.‏ وَغَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ بِمَنْ كَانَ جَائِزًا عَلَيْهِ فِي نَقْلِهِ الْخَطَأُ وَالسَّهْوُ، عَلَى مَنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ جَائِزٍ عَلَيْهِ فِي نَقْلِهِ‏.‏ وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ‏:‏ قَالَ اللَّهُ‏:‏ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ، وَرَزَقْتُ مُؤْمِنِي أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَكُفَّارَهُمْ، مَتَاعًا لَهُمْ إِلَى بُلُوغِ آجَالِهِمْ، ثُمَّ أَضْطَرُّ كُفَّارَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى النَّارِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ فَأَجْعَلُ مَا أَرْزُقُهُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ مَتَاعًا يَتَمَتَّعُ بِهِ إِلَى وَقْتِ مَمَاتِهِ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ، جَوَابًا لِمَسْأَلَتِهِ مَا سَأَلَ مِنْ رِزْقِ الثَّمَرَاتِ لِمُؤْمِنِي أَهْلِ مَكَّةَ‏.‏ فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ الْجَوَابَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا سَأَلَهُ إِبْرَاهِيمُ لَا فِي غَيْرِهِ‏.‏ وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ عَنْهُ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ تَأْوِيلُهُ‏:‏ فَأُمَتِّعُهُ بِالْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا‏.‏

وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا فِي كُفْرِهِ مَا أَقَامَ بِمَكَّةَ، حَتَّى أَبْعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقْتُلَهُ، إِنْ أَقَامَ عَلَى كُفْرِهِ، أَوْ يُجْلِيَهُ عَنْهَا‏.‏ وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ وَجْهًا يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ، فَإِنَّ دَلِيلَ ظَاهِرِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِهِ، لِمَا وَصَفْنَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ‏}‏، ثُمَّ أَدْفَعُهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَأَسُوقُهُ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الطُّورِ‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وَمَعْنَى ‏(‏الاضْطِرَارِ‏)‏، الْإِكْرَاهُ‏.‏ يُقَالُ‏:‏ ‏{‏اضْطَرَرْتُ فَلَانَا إِلَى هَذَا الْأَمْرِ‏}‏، إِذَا أَلْجَأْتُهُ إِلَيْهِ وَحَمَلْتُهُ عَلَيْهِ‏.‏

فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ‏}‏، أَدْفَعُهُ إِلَيْهَا وَأَسُوقُهُ، سَحْبًا وَجَرًّا عَلَى وَجْهِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ ‏"‏ بِئْسَ ‏"‏ أَصْلُهُ ‏"‏ بِئِسَ ‏"‏ مِنْ ‏"‏ الْبُؤْسِ ‏"‏ سُكِّنَ ثَانِيهُ، وَنُقِلَتْ حَرَكَةُ ثَانِيهِ إِلَى أَوَّلِهِ، كَمَا قِيلَ لِلْكَبِدِ كِبْدٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ وَسَاءَ الْمَصِيرُ عَذَابُ النَّارِ، بَعْدَ الَّذِي كَانُوا فِيهِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الَّذِي مَتَّعْتُهُمْ فِيهَا‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏المَصِيُر‏"‏، فَإِنَّهُ ‏"‏مَفعِلٌ‏"‏ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏صِرْتُ مَصِيرًا صَالِحًا‏)‏، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَصِيرُ إِلَيْهِ الْكَافِرُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلَُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ‏}‏، وَاذْكُرُوا إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ‏.‏

و ‏"‏ الْقَوَاعِدُ ‏"‏ جَمْعُ ‏"‏ قَاعِدَةٍ ‏"‏، يُقَالُ لِلْوَاحِدَةِ مِنْ ‏"‏ قَوَاعِدِ الْبَيْتِ ‏"‏ ‏"‏ قَاعِدَةٌ ‏"‏، وَلِلْوَاحِدَةِ مِنْ ‏"‏ قَوَاعِدِ النِّسَاءِ ‏"‏ وَعَجَائِزهِنَّ ‏"‏ قَاعِدٌ‏)‏، فَتُلْغَى هَاءُ التَّأْنِيثِ، لِأَنَّهَا ‏"‏ فَاعِلٌ ‏"‏ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏قَعَدَتْ عَنِ الْحَيْضِ‏)‏، وَلَا حَظَّ فِيهِ لِلذُّكُورَةِ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏(‏امْرَأَةٌ طَاهِرٌ وَطَامِثٌ‏)‏، لِأَنَّهُ لَا حَظَّ فِي ذَلِكَ لِلذُّكُورِ‏.‏ وَلَوْ عَنَى بِهِ ‏"‏ القُعُودَ ‏"‏ الَّذِي هُوَ خِلَافُ ‏(‏القِيَامِ‏)‏، لَقِيلَ‏:‏ ‏(‏قَاعِدَةٌ‏)‏، وَلَمْ يَجُزْ حِينَئِذٍ إِسْقَاطُ هَاءِ التَّأْنِيثِ‏.‏ و ‏"‏ قَوَاعِدُ الْبَيْتِ ‏"‏‏:‏ إِسَاسُهُ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ‏"‏ القَوَاعِدِ ‏"‏ الَّتِي رَفَعَهَا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ مِنَ الْبَيْتِ‏.‏ أَهُمَا أَحْدَثَا ذَلِكَ، أَمْ هِيَ قَوَاعِدُ كَانَتْ لَهُ قَبْلَهُمَا‏؟‏

فَقَالَ قَوْمٌ‏:‏ هِيَ قَوَاعِدُ بَيْتٍ كَانَ بِنَاهُ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ بِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ دَرَسَ مَكَانُهُ وَتَعَفَّى أَثَرُهُ بَعْدَهُ، حَتَّى بَوَّأَهُ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَبَنَاهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ‏:‏ قَالَ آدَمُ‏:‏ يَا رَبِّ، إِنِّي لَا أَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْمَلَائِكَةِ‏!‏ قَالَ‏:‏ بِخَطِيئَتِكَ، وَلَكِنِهْبِطْ إِلَى الْأَرْضِ، وَابْنِ لِي بَيْتًا، ثُمَّ احْفُفْ بِهِ كَمَا رَأَيْتَ الْمَلَائِكَةَ تَحُفُّ بِبَيْتَيَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ‏.‏ فَيَزْعُمُ النَّاسُ أَنَّهُ بَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ‏:‏ مِنْ ‏"‏ حِرَاءَ ‏"‏ و ‏"‏ طُورِزِيتَا‏)‏، وَ ‏"‏ طُورِسِينَا‏)‏، وَ ‏"‏ جَبَلِ لُبْنَانَ‏)‏، وَ ‏"‏ الْجُودِيِّ‏)‏، وَكَانَ رَبْضُهُ مِنْ حِرَاءَ‏.‏ فَكَانَ هَذَا بِنَاءَ آدَمَ حَتَّى بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ بَعْدُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ‏)‏ قَالَ، الْقَوَاعِدُ الَّتِي كَانَتْ قَوَاعِدُ الْبَيْتِ قَبْلَ ذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ هِيَ قَوَاعِدُ بَيْتٍ كَانَ اللَّهُ أَهْبَطَهُ لِآدَمَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، يَطُوفُ بِهِ كَمَا كَانَ يَطُوفُ بِعَرْشِهِ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ أَيَّامَ الطُّوفَانِ، فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ قَوَاعِدَ ذَلِكَ الْبَيْتِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ قَالَ‏:‏ إِنِّي مُهْبِطٌ مَعَكَ- أَوْ مُنـْزِلٌ- مَعَكَ بَيْتًا يُطَافُ حَوْلَهُ كَمَا يُطَافُ حَوْلَ عَرْشِي، وَيُصَلَّى عِنْدَهُ كَمَا يُصَلَّى عِنْدَ عَرْشِي‏.‏ فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الطُّوفَانِ رُفِعَ، فَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ يَحُجُّونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ مَكَانَهُ، حَتَّى بَوَّأَهُ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَعْلَمَهُ مَكَانَهُ، فَبَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ‏:‏ مِنْ ‏"‏ حِرَاءَ ‏"‏ وَ ‏"‏ ثَبِير ‏"‏ وَ ‏"‏ لُبْنَانَ ‏"‏ وَ ‏"‏ جَبَلِ الطُّور ‏"‏ وَ ‏"‏ جَبَلِ الْخَمْرِ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ‏:‏ لَمَّا أُهْبِطَ آدَمُ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ، عَنْ سَوَارٍ ‏[‏خَتَنِ عَطَاءٍ‏]‏، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ‏:‏ لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ، كَانَ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ وَرَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ، يَسْمَعُ كَلَامَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَدُعَاءَهُمْ، يَأْنَسُ إِلَيْهِمْ، فَهَابَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، حَتَّى شَكَتْ إِلَى اللَّهِ فِي دُعَائِهَا وَفِي صَلَاتِهَا، فَخَفَضَهُ إِلَى الْأَرْضِ‏.‏ فَلَمَّا فَقَدَ مَا كَانَ يَسْمَعُ مِنْهُمْ، اسْتَوْحَشَ حَتَّى شَكَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ فِي دُعَائِهِ وَفِي صِلَاتِهِ، فَوُجِّهَ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ مَوْضِعُ قَدَمِهِ قَرْيَةً وَخَطْوُهُ مَفَازَةً، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ‏.‏ وأَنْـزَلَ اللَّهُ يَاقُوتَةً مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ، فَكَانَتْ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ الْآنَ، فَلَمْ يَزَلْ يَطُوفُ بِهِ حَتَّى أَنْـزَلَ اللَّهُ الطُّوفَانَ، فَرُفِعَتْ تِلْكَ الْيَاقُوتَةُ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ فَبَنَاهُ‏.‏ فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ وَضَعَ اللَّهُ الْبَيْتَ مَعَ آدَمَ، حِينَ أَهْبَطُ اللَّهُ آدَمَ إِلَى الْأَرْضِ، وَكَانَ مَهْبِطُهُ بِأَرْضِ الْهِنْدِ، وَكَانَ رَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ، وَرِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ، فَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَهَابُهُ، فَنَقُصَ إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعًا‏:‏ فَحَزِنَ آدَمُ إِذْ فَقَدَ أَصْوَاتَ الْمَلَائِكَةِ وَتَسْبِيحَهُمْ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ يَا آدَمُ، إِنِّي قَدْ أَهْبَطُّتُ إِلَيْكَ بَيْتًا تَطُوفُ بِهِ كَمَا يُطَافُ حَوْلَ عَرْشِي، وَتَصِلِي عِنْدَهُ كَمَا يُصَلَّى عِنْدَ عَرْشِي‏.‏ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ آدَمُ فَخَرَجَ، وَمُدَّ لَهُ فِي خَطْوِهُ، فَكَانَ بَيْنَ كُلِّ خُطْوَتَيْنِ مَفَازَةٌ، فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ الْمَفَاوِزُ بَعْدَ ذَلِكَ‏.‏ فَأَتَى آدَمُ الْبَيْتَ وَطَافَ بِهِ وَمَنْ بَعْدِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَبَانَ‏:‏ أَنَّ الْبَيْتَ أُهْبِطَ يَاقُوتَةً وَاحِدَةً- أَوْ دُرَّةً وَاحِدَةً- حَتَّى إِذَا أَغْرَقَ اللَّهُ قَوْمَ نُوحٍ رَفَعَهُ، وَبَقِيَ أَسَاسُهُ، فَبَوَّأَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ، فَبَنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ كَانَ مَوْضِعُ الْبَيْتِ رَبْوَةً حَمْرَاءَ كَهَيْئَةِ الْقُبَّةِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ خَلْقَ الْأَرْضِ عَلَا الْمَاءَ زُبْدَةٌ حَمْرَاءُ أَوْ بَيْضَاءُ، وَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ‏.‏ ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ مِنْ تَحْتِهَا، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَتَّى بَوَّأَهُ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ، فَبَنَاهُ عَلَى أَسَاسِهِ‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ أَسَاسُهُ عَلَى أَرْكَانٍ أَرْبَعَةٍ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ كَانَ مَوْضِعُ الْبَيْتِ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، مِثْلَ الزُّبْدَةِ الْبَيْضَاءِ، وَمِنْ تَحْتِهِ دُحِيَتِ الْأَرْضُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ عَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ‏:‏ بَعَثَ اللَّهُ رِيَاحًا فَصَفَّقَتِ الْمَاءَ، فَأَبْرَزَتْ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ عَنْ حَشَفَةٍ كَأَنَّهَا الْقُبَّةُ، فَهَذَا الْبَيْتُ مِنْهَا‏.‏ فَلِذَلِكَ هِيَ ‏"‏ أُمُّ الْقُرَى ‏"‏‏.‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ عَطَاءٌ‏:‏ ثُمَّ وَتَدَهَا بِالْجِبَالِ كَيْ لَا تُكْفَأَ بِمَيْدٍ، فَكَانَ أَوَّلُ جَبَلٍ ‏"‏ أَبُو قَيْسٍ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ حَفْصِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ وُضِعَ الْبَيْتُ عَلَى أَرْكَانِ الْمَاءِ، عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ، قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ الدُّنْيَا بِأَلْفَيْ عَامٍ، ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ هَارُونََ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ‏:‏ وَجَدُوا بِمَكَّةَ حَجَرًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ‏:‏ ‏(‏إِنِّي أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ بِنَيْتُهُ يَوْمَ صَنَعْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَحَفَفْتُهُ بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ حُنَفَاءَ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي عبدُ اللهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ‏:‏ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَوَّأَ إِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّامِ، وَخَرَجَ مَعَهُ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِهَاجَرَ، وَإِسْمَاعِيلُ طِفْلٌ صَغِيرٌ يَرْضَعُ‏.‏ وَحُمِلُوا- فِيمَا حَدَّثَنِي- عَلَى الْبُرَاقِ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ يَدُلُّهُ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ وَمَعَالِمِ الْحَرَمِ‏.‏ فَخَرَجَ وَخَرَجَ مَعَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ‏:‏ كَانَ لَا يَمُرُّ بِقَرْيَةٍ إِلَّا قَالَ‏:‏ أَبِهَذِهِ أُمِرْتُ يَا جِبْرِيلُ‏؟‏ فَيَقُولُ جِبْرِيلُ‏:‏ امْضِهِ‏!‏ حَتَّى قَدِمَ بِهِ مَكَّةَ، وَهِيَ إِذْ ذَاكَ عَضَّاهُ سَلْمٍ وَسَمُرٍ، وَبِهَا أُنَاسٌ يُقَالُ لَهُمُ ‏"‏ الْعَمَالِيقُ ‏"‏ خَارِجَ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَالْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ رَبْوَةٌ حَمْرَاءُ مَدَرَةٌ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِجِبْرِيلَ‏:‏ أَهاَهْنَا أُمِرْتُ أَنْ أَضَعَهُمَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏ فَعَمَدَ بِهِمَا إِلَى مَوْضِعِ الْحَجَرِ فَأَنـْزَلَهُمَا فِيهِ، وَأَمْرَهَاجَرَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَأَنْ تَتَّخِذَ فِيهِ عَرِيشًا، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ‏}‏‏.‏ ‏[‏سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 37‏]‏

قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ‏:‏ قَالَ، سَلَمَةُ قَالَ، ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ وَيَزْعُمُونَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ مَلَكًَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَتَىهَاجَرَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ- حِينَ أَنْـزَلَهُمَا إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ- فَأَشَارَ لَهَا إِلَى الْبَيْتِ، وَهُوَ رَبْوَةٌ حَمْرَاءُ مَدَرَةٌ، فَقَالَ لَهَا‏:‏ هَذَا أَوَّلُ بَيْتٍ وَضْعَ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ بَيْتُ اللَّهِ الْعَتِيقُ، وَاعْلَمِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ هُمَا يَرْفَعَانِهِ لِلنَّاسِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ خَلَقَ اللَّهُ مَوْضِعَ هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَأَرْكَانُهُ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ، أَخْبَرَنِي بِشْرُ بْنُ عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ، حَدَّثَنَا كَعْبٌ‏:‏ إِنَّ الْبَيْتَ كَانَ غُثَاءَةً عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الْأَرْضَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمِنْهُ دُحِيَتِ الْأَرْضُ‏.‏ قَالَ ‏[‏سَعِيدٌ‏]‏‏:‏ وحُدِّثْنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ‏:‏ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَقْبَلَ مِنْ أَرْمِينِيَّةَ مَعَهُ السَّكِينَةُ، تَدُلُّهُ عَلَى تَبَوُّئِ الْبَيْتِ، كَمَا تَتَبَوَّأُ الْعَنْكَبُوتُ بَيْتَهَا قَالَ، فَرَفَعَتْ عَنْ أَحْجَارٍ تُطِيقُهُ- أَوْ لَا تُطِيقُهُ- ثَلَاثُونَ رَجُلًا قَالَ، قُلْتُ‏:‏ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ‏}‏ قَالَ، كَانَ ذَاكَ بَعْدُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ أَنَّهُ وَابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ، رَفَعًا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ‏.‏ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَوَاعِدَ بَيْتٍ كَانَ أَهْبَطَهُ مَعَ آدَمَ، فَجَعَلَهُ مَكَانَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ الَّذِي بِمَكَّةَ‏.‏ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ الْقُبَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا عَطَاءٌ، مِمَّا أَنْشَأَهُ اللَّهُ مِنْ زَبَدِ الْمَاءِ‏.‏ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ يَاقُوتَةً أَوْ دُرَّةً أُهْبِطَا مِنَ السَّمَاءِ‏.‏ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ آدَمُ بَنَاهُ ثُمَّ انْهَدَمَ، حَتَّى رَفَعَ قَوَاعِدَهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ‏.‏ وَلَا عِلْمَ عِنْدِنَا بِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَيٍّ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِخَبَرٍ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ‏.‏ وَلَا خَبَرَ بِذَلِكَ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ فَيَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا، وَلَا هُوَ- إِذْ لَمْ يَكُنْ بِهِ خَبَرٌ، عَلَى مَا وَصَفْنَا- مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالْمَقَايِيسِ، فَيُمَثَّلُ بِغَيْرِهِ، وَيُسْتَنْبَطُ عِلْمُهُ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ، فَلَا قَوْلَ فِي ذَلِكَ هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِمَّا قُلْنَا‏.‏ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ يَقُولَانِ‏:‏ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا‏.‏ وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏.‏ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ التَّأوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنِ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ قَالَ، يَبْنِيَانِ وَهُمَا يَدْعُوَانِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتَلَى بِهَا إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمِينَ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي ابْنُ كَثِيرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلَُ‏}‏ قَالَ، هُمَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَيَقُولَانِ‏:‏ ‏(‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏)‏ قَالَ، وَإِسْمَاعِيلُ يَحْمِلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رَقَبَتِهِ، وَالشَّيْخُ يَبْنِي‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ‏:‏ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ قَائِلِينَ‏:‏ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ قَائِلُ ذَلِكَ كَانَ إِسْمَاعِيلَ‏.‏ فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ‏:‏ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، وَإِذْ يَقُولُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا‏.‏ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ ‏"‏ إِسْمَاعِيلُ ‏"‏ مَرْفُوعًا بِالْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهُ‏.‏ و ‏"‏ يَقُول ‏"‏ حِينَئِذٍ، خَبَرٌ لَهُ دُونَ إِبْرَاهِيمَ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِي رَفَعَ الْقَوَاعِدَ، بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مِمَّنْ رَفَعَهَا‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ رَفَعَهَا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ جَمِيعًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ‏:‏ ‏(‏وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ‏)‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَقَامَ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ وَأَخَذَا الْمَعَاوِلَ، لَا يَدْرِيَانِ أَيْنَ الْبَيْتُ‏.‏ فَبَعْثَ اللَّهُ رِيحًا يُقَالُ لَهَا رِيحُ الْخَجُوجِ، لَهَا جَنَاحَانِ وَرَأْسٌ فِي صُورَةِ حَيَّةٍ، فَكَنَسَتْ لَهُمَا مَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَنْ أَسَاسِ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ، وَاتَّبَعَاهَا بِالْمَعَاوِلِ يَحْفِرَانِ، حَتَّى وَضَعَا الْأَسَاسَ‏.‏ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ‏}‏‏.‏ ‏[‏سُورَةُ الْحَجِّ‏:‏ 26‏]‏‏.‏ فَلَمَّا بَنَيَا الْقَوَاعِدَ فَبَلَغَا مَكَانَ الرُّكْنِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِإِسْمَاعِيلَ‏:‏ يَا بُنَيَّ، اطْلُبْ لِي حَجَرًا حَسَنًا أَضَعُهُ هَاهُنَا‏.‏ قَالَ‏:‏ يَا أَبَتِ، إِنِّي كَسْلَانُ تَعِبٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ عَلَيَّ بِذَلِكَ‏.‏ فَانْطَلَقَ فَطَلَبَ لَهُ حَجَرًا فَجَاءَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يَرْضَهُ، فَقَالَ‏:‏ ائْتِنِي بِحَجَرٍ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا‏.‏ فَانْطَلَقَ يَطْلُبُ لَهُ حَجَرًا، وَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْهِنْدِ، وَكَانَ أَبْيَضَ، يَاقُوتَةً بَيْضَاءَ مِثْلَ الثَّغَامَةِ‏.‏ وَكَانَ آدَمُ هَبَطَ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ فَاسْوَدَّ مِنْ خَطَايَا النَّاسِ‏.‏ فَجَاءَهُ إِسْمَاعِيلُ بِحَجَرٍ فَوَجَدَهُ عِنْدَ الرُّكْنِ، فَقَالَ‏:‏ يَا أَبَتِ مَنْ جَاءَكَ بِهَذَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ مَنْ هُوَ أَنْشَطُ مِنْكَ‏!‏ فَبَنَيَاهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عبدِ اللهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ‏:‏ بَلَغَنِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ هُمَا رَفَعَا قَوَاعِدَ الْبَيْتِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ رَفْعَ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ إِبْرَاهِيمُ، وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الرَّازِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ وَكَثِيرِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ- يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ-، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ جَاءَ إِبْرَاهِيمُ، وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَّمَا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ، وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَتُعِينُنِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَأُعِينُكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا‏!‏ وَأَشَارَ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَالْكَعْبَةُ مُرْتَفِعَةٌ عَلَى مَا حَوْلَهَا قَالَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ، وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ، فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهُمَا يَقُولَانِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏، حَتَّى دَوَّرَ حَوْلَ الْبَيْتِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ، سَمِعْتُ كَثِيرَ بْنَ كَثِيرٍ يُحَدِّثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ جَاءَ- يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ- فَوَجَدَ إِسْمَاعِيلَ يُصْلِحُ نَبْلًا مِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ‏.‏ قَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللَّهَ رَبَّكَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا‏.‏ فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ‏:‏ فَأَطِعْ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ‏.‏ فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ إِذًا أَفْعَلُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَقَامَ مَعَهُ، فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِيهِ، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَيَقُولَانِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ فَلَّمَّا ارْتَفَعَ الْبُنْيَانُ، وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ رَفْعِ الْحِجَارَةِ، قَامَ عَلَى حَجَرٍ، فَهُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، فَجَعَلَ يُنَاوِلُهُ وَيَقُولَانِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ الَّذِي رَفَعَ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ إِبْرَاهِيمُ وَحَدَهُ، وَإِسْمَاعِيلُ يَوْمَئِذٍ طِفْلٌ صَغِيرٌ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، عَنْ عَلَيٍّ قَالَ‏:‏ لَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ، خَرَجَ مَعَهُ إِسْمَاعِيلُ وَهَاجَرُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ رَأَى عَلَى رَأْسِهِ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ مِثْلَ الْغَمَامَةِ، فِيهِ مِثْلُ الرَّأْسِ، فَكَلَّمَهُ فَقَالَ‏:‏ يَا إِبْرَاهِيمَ، ابْنِ عَلَى ظِلِّي- أَوْ عَلَى قَدْرِي- وَلَا تَزِدْ وَلَا تَنْقُصْ‏.‏ فَلَمَّا بَنَى ‏[‏خَرَجَ‏]‏ وَخَلَّفَ إِسْمَاعِيلَ وَهَاجَرَ، فَقَالَتْهَاجَرُ‏:‏ يَا إِبْرَاهِيمُ، إِلَى مَنْ تَكِلُنَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِلَى اللَّهِ‏.‏ قَالَتْ‏:‏ انْطَلِقْ فَإِنَّهُ لَا يُضَيِّعُنَا‏.‏ قَالَ‏:‏ فَعَطِشَ إِسْمَاعِيلُ عَطَشًا شَدِيدًا قَالَ، فَصَعِدَتْهَاجَرُ الصَّفَا، فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا‏.‏ ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ، فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى الصَّفَا فَنَظَرْتُ، فَلَمْ تُرَ شَيْئًا‏.‏ حَتَّى فَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ‏.‏ فَقَالَتْ‏:‏ يَا إِسْمَاعِيلُ، مُتَّ حَيْثُ لَا أَرَاكَ‏.‏ فَأَتَتْهُ وَهُوَ يَفْحَصُ بِرِجْلِهِ مِنَ الْعَطَشِ‏.‏ فَنَادَاهَا جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهَا‏:‏ مَنْ أَنْتِ‏؟‏ فَقَالَتْ‏:‏ أَنَاهَاجَرُ، أُمُّ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ‏.‏ قَالَ‏:‏ إِلَى مَنْ وَكَلَكِ مَا‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ وَكَلَنَا إِلَى اللَّهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَكَلَكُمَا إِلَى كَافٍ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَفَحَصَ ‏[‏الْغُلَامُ‏]‏ الْأَرْضَ بِإِصْبَعِهِ، فَنَبَعَتْ زَمْزَمُ، فَجَعَلَتْ تَحْبِسُ الْمَاءَ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ دَعِيهِ فَإِنَّهَا رَوَاءٌ‏.‏

حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ‏:‏ أَنَّ رَجُلًا قَامَ إِلَى عَلَيٍّ فَقَالَ‏:‏ أَلَا تُخْبِرُنِي عَنِ الْبَيْتِ‏؟‏ أَهْوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وَضِعَ فِي الْأَرْضِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لَا وَلَكِنْ هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ فِيهِ الْبَرَكَةُ، مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ كَيْفَ بُنِيَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَنِ ابْنِ لِي بَيْتًا فِي الْأَرْضِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَضَاقَ إِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ ذَرْعًا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّكِينَةَ- وَهَى رِيحٌ خَجُوجٌ، وَلَهَا رَأْسَانِ- فَأَتْبَعَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى مَكَّةَ، فَتَطَوَّتْ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ كَتَطَوِّي الْحَجَفَةِ، وَأُمِرَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ يَبْنِيَ حَيْثُ تَسْتَقِرُّ السَّكِينَةُ‏.‏ فَبَنَى إِبْرَاهِيمُ وَبَقِيَ حَجَرٌ، فَذَهَبَ الْغُلَامُ يَبْغِي شَيْئًا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ لَا‏!‏ ابْغِنِي حَجَرًا كَمَا آمُرُكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَانْطَلَقَ الْغُلَامُ يَلْتَمِسُ لَهُ حَجَرًا، فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ قَدْ رَكَّبَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ‏:‏ يَا أَبَتِ، مَنْ أَتَاكَ بِهَذَا الْحَجَرِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَتَانِي بِهِ مَنْ لَمْ يَتَّكِلْ عَلَى بِنَائِكَ، جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنَ السَّمَاءِ‏.‏ فَأَتَمَّاهُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ سِمَاكٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ عَرْعَرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَلَيٍّ بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَأَبُو الْأَحْوَصِ كُلُّهُمْ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، عَنْ عَلَيٍّ، بِنَحْوِهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَمَنْ قَالَ‏:‏ رَفَعَ الْقَوَاعِدَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ، أَوْ قَالَ‏:‏ رَفَعَهَا إِبْرَاهِيمُ وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، فَالصَّوَابُ فِي قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُضْمَرُ مِنَ الْقَوْلِ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ‏.‏ وَيَكُونُ الْكَلَامُ حِينَئِذٍ‏:‏ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ‏"‏ يَقُولَانِ‏:‏ ‏(‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا‏)‏‏.‏ وَقَدْ كَانَ يَحْتَمِلُ، عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، أَنْ يَكُونَ الْمُضْمَرُ مِنَ الْقَوْلِ لِإِسْمَاعِيلَ خَاصَّةً دُونَ إِبْرَاهِيمَ، وَلِإِبْرَاهِيمَ خَاصَّةً دُونَ إِسْمَاعِيلَ، لَوْلَا مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنْ أَنَّ الْمُضْمَرَ مِنَ الْقَوْلِ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ جَمِيعًا‏.‏

وَأَمَّا عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ‏:‏- أَنَّ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الَّذِي رَفَعَ الْقَوَاعِدَ دُونَ إِسْمَاعِيلَ- فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُضْمَرُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَّا لِإِسْمَاعِيلَ خَاصَّةً‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ الْمُضْمَرَ مِنَ الْقَوْلِ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَأَنَّ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ رَفَعَهَا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ جَمِيعًا‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، إِنْ كَانَا هُمَا بَنَيَاهَا وَرَفَعَاهَا فَهُوَ مَا قُلْنَا‏.‏ وَإِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ تَفَرَّدَ بِبِنَائِهَا، وَكَانَ

إِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ، فَهْمًا أَيْضًا رَفَعَاهَا، لِأَنَّ رَفْعَهَا كَانَ بِهِمَا‏:‏ مِنْ أَحَدِهِمَا الْبِنَاءُ، وَمِنَ الْآخَرِ نَقْلُ الْحِجَارَةِ إِلَيْهَا وَمَعُونَةُ وَضْعِ الْأَحْجَارِ مَوَاضِعَهَا‏.‏ وَلَا تَمْتَنِعُ الْعَرَبُ مِنْ نِسْبَةِ الْبِنَاءِ إِلَى مَنْ كَانَ بِسَبَبِهِ الْبِنَاءُ وَمَعُونَتُهُ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا مَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ، لِإِجْمَاعِ جَمِيعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ إِسْمَاعِيلَ مَعْنِيٌّ بِالْخَبَرِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُمَا‏:‏ ‏(‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏)‏‏.‏

فَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ لَمْ يَكُنْ لِيَقُولَ ذَلِكَ، إِلَّا وَهُوَ‏:‏ إِمَّا رَجُلٌ كَامِلٌ، وَإِمَّا غُلَامٌ قَدْ فَهِمَ مَوَاضِعَ الضُّرِّ مِنَ النَّفْعِ، وَلَزِمَتْهُ فَرَائِضُ اللَّهِ وَأَحْكَامُهُ‏.‏ وَإِذَا كَانَ- فِي حَالِ بِنَاءِ أَبِيهِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِبِنَائِهِ وَرَفْعِهِ قَوَاعِدَ بَيْتِ اللَّهِ- كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَارِكًا مَعُونَةَ أَبِيهِ، إِمَّا عَلَى الْبِنَاءِ، وَإِمَّا عَلَى نَقْلِ الْحِجَارَةِ‏.‏ وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ، فَقَدْ دَخَلَ فِي مَعْنَى مَنْ رَفَعَ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ الْمُضْمَرَ خَبَرٌ عَنْهُ وَعَنْ وَالِدِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ يَقُولَانِ‏:‏ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا عَمَلَنَا، وَطَاعَتَنَا إِيَّاكَ، وَعِبَادَتَنَا لَكَ، فِي انْتِهَائِنَا إِلَى أَمْرِكَ الَّذِي أَمَرْتَنَا بِهِ، فِي بِنَاءِ بَيْتِكَ الَّذِي أَمَرْتِنَا بِبِنَائِهِ، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏.‏

وَفِي إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُمَا رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ‏:‏ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ- دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ بِنَاءَهُمَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَسْكَنًا يَسْكُنَانِهِ، وَلَا مَنْـزِلًا يَنـْزِلِانِهِ، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا بَنَيَاهُ وَرَفَعَا قَوَاعِدَهُ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ تَقَرُّبًا مِنْهُمَا إِلَى اللَّهِ بِذَلِكَ‏.‏ وَلِذَلِكَ قَالَا ‏"‏ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ‏"‏‏.‏ وَلَوْ كَانَا بَنَيَاهُ مَسْكَنًا لِأَنْفُسِهِمْ، لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِمَا‏:‏ ‏(‏تَقَبَّلْ مِنَّا‏)‏ وَجْهٌ مَفْهُومٌ‏.‏ لِأَنَّهُ كَانَا يَكُونَانِ- لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ- سَائِلِينَ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمَا مَا لَا قُرْبَةَ فِيهِ إِلَيْهِ‏.‏ وَلَيْسَ مَوْضِعُهُمَا مَسْأَلَةَ اللَّهِ قَبُولَ مَا لَا قُرْبَةَ إِلَيْهِ فِيهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏)‏، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ دُعَاءَنَا وَمَسْأَلَتَنَا إِيَّاكَ قَبُولَ مَا سَأَلْنَاكَ قَبُولَهُ مِنَّا، مِنْ طَاعَتِكَ فِي بِنَاءِ بَيْتِكَ الَّذِي أَمَرْتَنَا بِبِنَائِهِ- الْعَلِيمُ بِمَا فِي ضَمَائِرِ نُفُوسِنَا مِنَ الْإِذْعَانِ لَكَ فِي الطَّاعَةِ، وَالْمَصِيرِ إِلَى مَا فِيهِ لَكَ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ، وَمَا نُبْدِي وَنُخْفِي مِنْ أَعْمَالِنَا، كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو كَثِيرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا أَيْضًا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ‏:‏ أَنَّهُمَا كَانَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ‏:‏ ‏(‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ‏}‏، يَعْنِيانِ بِذَلِكَ‏:‏ وَاجْعَلْنَا مُسْتَسْلِمَيْنَ لِأَمْرِكَ، خَاضِعَيْنَ لِطَاعَتِكَ، لَا نُشْرِكُ مَعَكَ فِي الطَّاعَةِ أَحَدًا سِوَاكَ، وَلَا فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَكَ‏.‏

وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّمَعْنَى ‏"‏ الإِسْلَامِ ‏"‏‏:‏ الْخُضُوعُ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ‏)‏، فَإِنَّهُمَا خَصَّا بِذَلِكَ بَعْضَ الذُّرِّيَّةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ كَانَ أَعْلَمَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَسْأَلَتِهِ هَذِهِ، أَنَّ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مَنْ لَا يَنَالُ عَهْدَهُ لِظُلْمِهِ وَفُجُورِهِ‏.‏ فَخَصَّا بِالدَّعْوَةِ بَعْضَ ذُرِّيَّتِهِمَا‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّهُمَا عَنَيَا بِذَلِكَ الْعَرَبَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ‏:‏ ‏(‏وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ‏)‏ يَعْنِيَانِ الْعَرَبَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا قَوْلٌ يَدُلُّ ظَاهِرُ الْكِتَابِ عَلَى خِلَافِهِ‏.‏ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا دَعَوَا اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا أَهْلَ طَاعَتِهِ وَوِلَايَتِهِ، وَالْمُسْتَجِيبِينَ لِأَمْرِهِ‏.‏ وَقَدْ كَانَ فِي وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ الْعَرَبُ وَغَيْرُ الْعَرَبِ، وَالْمُسْتَجِيبُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالْخَاضِعُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، مِنَ الْفَرِيقَيْنِ‏.‏ فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ عَنَى إِبْرَاهِيمُ بِدُعَائِهِ ذَلِكَ فَرِيقًا مِنْ وَلَدِهِ بِأَعْيَانِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، إِلَّا التَّحَكُّمَ الَّذِي لَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَحَدٌ‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏ الأُمَّةُ ‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهَا الْجَمَاعَةَ مِنَ النَّاسِ، مِنْ قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 159‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ‏.‏ فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏(‏وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا‏)‏ بِمَعْنَى رُؤْيَةِ الْعَيْنِ، أَيْ أَظْهِرْهَا لِأَعْيُنِنَا حَتَّى نَرَاهَا‏.‏ وَذَلِكَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْكُوفَةِ‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ مَنْ يُوَجِّهُ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، يُسَكِّنُ الرَّاءَ مِنْ ‏(‏أَرْنَا‏)‏، غَيْرَ أَنَّهُ يُشِمُّهَا كَسْرَةً‏.‏

وَاخْتَلَفَ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وقَرَأَةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مَنَاسِكَنَا‏)‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هِيَ مَنَاسِكُ الْحَجِّ وَمَعَالِمُهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا‏)‏ فَأَرَاهُمَا اللَّهُ مَنَاسِكَهُمَا‏:‏ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَالْإِفَاضَةَ مِنْ جَمْعٍ، وَرَمْي الْجِمَارِ، حَتَّى أَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ- أَوْ دِينَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا‏)‏ قَالَ، أَرِنَا نُسُكَنَا وَحَجَّنَا‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ قَالَ‏:‏ لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ مِنْ بُنْيَانِ الْبَيْتِ، أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُنَادِيَ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْحَجِّ‏:‏ 27‏]‏، فَنَادَى بَيْنَ أَخْشَبَيْ مَكَّةَ‏:‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ‏!‏ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَحُجُّوا بَيْتَهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَوَقَرَتْ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ، فَأَجَابَهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ جَبَلٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ دَابَّةٍ‏:‏ ‏(‏لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ‏)‏‏.‏ فَأَجَابُوهُ بِالتَّلْبِيَةِ‏:‏ ‏(‏لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ‏)‏، وَأَتَاهُ مَنْ أَتَاهُ‏.‏ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَاتٍ، وَنَعَتَهَا ‏[‏لَهُ‏]‏، فَخَرَجَ‏.‏ فَلَمَّا بَلَغَ الشَّجَرَةَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، اسْتَقْبَلَهُ الشَّيْطَانُ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، فَطَارَ فَوَقَعَ عَلَى الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا، فَصَدَّهُ، فَرَمَاهُ وَكَبَّرَ، فَطَارَ فَوَقَعَ عَلَى الْجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ، فَرَمَاهُ وَكَبَّرَ‏.‏ فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يُطِيقُهُ، وَلَمْ يَدْرِ إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ يَذْهَبُ، انْطَلَقَ حَتَّى أَتَى ‏(‏ذَا الْمَجَازِ‏)‏، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ جَازَ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ‏:‏ ‏(‏ذَا الْمَجَازِ‏)‏‏.‏ ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى وَقَعَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا عَرَفَ النَّعْتَ‏.‏ قَالَ‏:‏ قَدْ عَرَفْتُ‏!‏ فَسُمِّيَتْ‏:‏ ‏(‏عَرَفَاتٌ ‏"‏‏.‏ فَوَقَفَ إِبْرَاهِيمُ بِعَرَفَاتٍ، حَتَّى إِذَا أَمْسَى ازْدَلَفْ إِلَى جَمْعٍ، فَسَمَّيَتِ ‏(‏المُزْدَلِفَةُ‏)‏، فَوَقَفَ بِجَمْعٍ‏.‏ ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى الشَّيْطَانَ حَيْثُ لَقِيَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَقَامَ بِمِنًى حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْحَجِّ وَأَمْرِهِ‏.‏ وَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا‏)‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ- مِمَّنْ قَرَأَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ- ‏"‏ المَنَاسِكُ ‏"‏‏:‏ الْمَذَابِحُ‏.‏ فَكَانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏ وَأَرِنَا كَيْفَ نَنْسُكُ لَكَ يَا رَبَّنَا نَسَائِكَنَا، فَنَذْبَحَهَا لَكَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ‏:‏ ‏(‏وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا‏)‏ قَالَ‏:‏ ذَبَحْنَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ‏:‏ مَذَابِحُنَا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ عَطَاءٌ‏:‏ سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا‏)‏ قَالَ، أَرِنَا مَذَابِحَنَا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ ‏(‏وَأَرْنَا مَنَاسِكَنَا‏)‏ بِتَسْكِيِنِ الرَّاءِ، وَزَعَمُوا أَنَّ مَعْنًى ذَلِكَ‏:‏ وَعَلِّمْنَا، وَدُلَّنَا عَلَيْهَا- لَا أَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ أَرِنَاهَا بِالْأَبْصَارِ‏.‏ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ حُطَائِطَ بْنِ يَعْفُرَ، أَخِي الْأَسُوَدِ بْنِ يَعْفُرَ‏:‏

أَرِينِـي جـَوَادًا مـَاتَ هـَزْلَا لِأَنـَنِي *** أَرَى مـا تـرَيْنَ أَوْ بَخـِيلَا مُخـَلَّدًا

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَرِينِي‏)‏، دُلِّينِي عَلَيْهِ وَعَرِّفِينِي مَكَانَهُ، وَلَمْ يَعْنِ بِهِ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ‏.‏

وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ رُوِيَتْ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ عَطَاءٌ‏:‏ ‏(‏أَرِنَا مَنَاسِكَنَا‏)‏، أَخْرِجَهَا لَنَا، عَلِّمْنَاهَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ‏:‏ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ‏:‏ لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَعَلْتُ أَيْ رَبِّ، فَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا‏)‏- أَبْرَزْهَا لَنَا، عَلِّمْنَاهَا- فَبَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ، فَحَجَّ بِهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْقَوْلُ وَاحِدٌ، فَمَنْ كَسَرَ ‏"‏ الرَّاءَ ‏"‏ جَعَلَ عَلَامَةَ الْجَزْمِ سُقُوطَ ‏"‏ اليَاءِ ‏"‏ الَّتِي فِي قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ أَرِينِهِ أَرِنِهِ، وَأَقرَّ الرَّاءَ مَكْسُورَةً كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الْجَزْمِ‏.‏ وَمَنْ سَكَّنَ ‏"‏ الرَّاءَ ‏"‏ مِنْ ‏(‏أَرِنَا‏)‏، تَوَهَّمَ أَنَّ إِعْرَابَ الْحَرْفِ فِي الرَّاءِ، فَسَكَّنَهَا فِي الْجَزْمِ، كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي ‏"‏ لَمْ يَكُنْ ‏"‏ و ‏"‏ لَمْ يَكُ‏"‏‏.‏

وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ أَوْ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ‏.‏ وَلَا مَعْنَى لِفَرْقِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ فِي ذَلِكَ وَرُؤْيَةِ الْقَلْبِ‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏ المَنَاسِكُ ‏"‏ فَإِنَّهَا جَمْعُ ‏"‏ مَنْسَكٍ‏)‏، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُنْسَكُ لِلَّهِ فِيهِ، وَيُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ فِيهِ بِمَا يُرْضِيهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ‏:‏ إِمَّا بِذَبْحِ ذَبِيحَةٍ لَهُ، وَإِمَّا بِصَلَاةٍ أَوْ طَوَافٍ أَوْ سَعْيٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ‏.‏ وَلِذَلِكَ قِيلَ لِمَشَاعِرَ الْحَجِّ ‏"‏ مَنَاسِكُهُ‏)‏، لِأَنَّهَا أَمَارَاتٌ وَعَلَامَاتٌ يَعْتَادُهَا النَّاسُ، وَيَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهَا‏.‏

وَأَصْلُ ‏"‏ المَنْسَكِ ‏"‏ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ‏:‏ الْمَوْضِعُ الْمُعْتَادُ الَّذِي يَعْتَادُهُ الرَّجُلُ وَيَأْلَفُهُ، يُقَالُ‏:‏ ‏(‏لِفُلَانٍ مَنْسَكٌ‏)‏، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَهُ مَوْضِعٌ يَعْتَادُهُ لِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ‏.‏ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ‏"‏المَنَاسِكُ‏"‏ ‏"‏مَنَاسِكٌ‏"‏، لِأَنَّهَا تُعْتَادُ، وَيُتَرَدَّدُ إِلَيْهَا بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَبِالْأَعْمَالِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّمَعْنَى ‏"‏ النُّسُكِ ‏"‏‏:‏ عِبَادَةُ اللَّهِ‏.‏ وَأَنَّ ‏"‏ النَّاسِكَ ‏"‏ إِنَّمَا سُمِّيَ ‏"‏ نَاسِكًا ‏"‏ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ‏.‏

فَتَأَوَّلَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا‏)‏، وَعَلِّمْنَا عِبَادَتَكَ، كَيْفَ نَعْبُدُكَ‏؟‏ وَأَيْنَ نَعْبُدُكَ‏؟‏ وَمَا يُرْضِيكَ عَنَّا فَنَفْعَلُهُ‏؟‏

وَهَذَا الْقَوْلُ، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبًا يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ، فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى مَعْنَى ‏"‏ المَنَاسِكِ ‏"‏ مَا وَصَفْنَا قَبْلُ، مِنْ أَنَّهَا ‏"‏ مَنَاسِكُ الْحَجِّ ‏"‏ الَّتِي ذَكَرْنَا مَعْنَاهَا‏.‏

وَخَرَجَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَى وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهُمَا رَبَّهُمَا لِأَنْفُسِهِمَا‏.‏ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُمَا مَسْأَلَةُ رَبِّهُمَا لِأَنْفُسِهِمَا وَذُرِّيَّتِهِمَا الْمُسْلِمَيْنِ‏.‏ فَلَمَّا ضَمَّا ذُرِّيَّتَهُمَا الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنْفُسِهِمَا، صَارَا كَالْمُخْبِرِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمَا بِذَلِكَ‏.‏ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِتُقَدِّمِ الدُّعَاءَِ مِنْهُمَا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا قَبْلُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَتَأَخُّرِهِ بَعْدُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى‏.‏ فَأَمَّا الَّذِي فِي أَوَّلِ الْآيَةِ فَقَوْلُهُمَا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ‏}‏، ثُمَّ جَمَعَا أَنْفُسَهُمَا وَالْأُمَّةَ الْمُسْلِمَةَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا، فِي مَسْأَلَتِهِمَا رَبَّهُمَا أَنْ يُرِيَهُمْ مَنَاسِكَهُمْ فَقَالَا ‏"‏ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ‏"‏‏.‏ وَأَمَّا الَّتِي فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا‏:‏ ‏(‏رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ‏)‏، فَجَعَلَا الْمَسْأَلَةَ لِذَرِّيَّتِهِمَا خَاصَّةً‏.‏

وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏(‏وَأَرِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ‏}‏، يَعْنِي بِذَلِكَ وَأَرِ ذُرِّيَّتنَا الْمُسْلِمَةَ مَنَاسِكَهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ أَمَّا ‏"‏ التَّوْبَةُ‏)‏، فَأَصْلُهَا الْأَوْبَةُ مِنْ مَكْرُوهٍ إِلَى مَحْبُوبٍ‏.‏ فَتَوْبَةُ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ، أَوَبِتُهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ مِنْهُ، بِالنَّدَمِ عَلَيْهِ، وَالْإِقْلَاعِ عَنْهُ، وَالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ فِيهِ‏.‏ وَتَوْبَةُ الرَّبِّ عَلَى عَبْدِهِ‏:‏ عَوْدُهُ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ لَهُ عَنْ جُرْمِهِ، وَالصَّفْحِ لَهُ عَنْ عُقُوبَةِ ذَنْبِهِ، مَغْفِرَةً لَهُ مِنْهُ، وَتُفَضُّلَا عَلَيْهِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَهَلْ كَانَ لَهُمَا ذُنُوبٌ فَاحْتَاجَا إِلَى مَسْأَلَةِ رَبِّهِمَا التَّوْبَةَ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، إِلَّا وَلَهُ مِنَ الْعَمَلِ- فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ- مَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنَابَةُ مِنْهُ وَالتَّوْبَةُ‏.‏ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا كَانَ مِنْ قَبْلِهِمَا مَا قَالَا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا خَصَّا بِهِ الْحَالَ الَّتِي كَانَا عَلَيْهَا، مِنْ رَفْعِ قَوَاعِدِ الْبَيْتِ‏.‏ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَحْرَى الْأَمَاكِنِ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ فِيهَا دُعَاءَهُمَا، وَلِيَجْعَلَا مَا فَعَلَا مِنْ ذَلِكَ سُنَّةً يُقْتَدَى بِهَا بَعْدَهُمَا، وَتَتَّخِذُ النَّاسُ تِلْكَ الْبُقْعَةَ بَعْدَهُمَا مَوْضِعَ تَنَصُّلٍ مِنَ الذُّنُوبِ إِلَى اللَّهِ‏.‏ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَا عَنَيَا بِقَوْلِهِمَا‏:‏ ‏(‏وَتُبْ عَلَيْنَا‏)‏، وَتُبْ عَلَى الظَّلَمَةِ مِنْ أَوْلَادِنَا وَذُرِّيَّتِنَا- الَّذِينَ أَعْلَمْتَنَا أَمْرَهُمْ- مِنْ ظُلْمِهِمْ وَشِرْكِهِمْ، حَتَّى يُنِيبُوا إِلَى طَاعَتِكَ‏.‏ فَيَكُونُ ظَاهِرُ الْكَلَامِ عَلَى الدُّعَاءِ لِأَنْفُسِهِمَا، وَالْمَعْنِيُّ بِهِ ذَرِّيَّتُهُمَا‏.‏ كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏(‏أَكْرَمَنِي فَلَانٌ فِي وَلَدِي وَأَهْلِي، وَبَرَّنِي فُلَانٌ‏)‏، إِذَا بَرَّ وَلَدَهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ‏:‏ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَائِدُ عَلَى عِبَادِكَ بِالْفَضْلِ، وَالْمُتَفَضِّلُ عَلَيْهِمْ بِالْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ- الرَّحِيمُ بِهِمْ، الْمُسْتَنْقِذُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُمْ بِرَحْمَتِكَ مِنْ هَلَكَتِهِ، الْمُنْجِي مَنْ تُرِيدُ نَجَاتَهُ مِنْهُمْ بِرَأْفَتِكَ مِنْ سَخَطِكَ‏.‏